کد مطلب:370255 یکشنبه 20 خرداد 1397 آمار بازدید:572

الفصل الأول معالجة أخطاء فاحشة














الصفحة 216












الصفحة 217


بدایة:


إننا سنتحدث فی فصل مستقل عن شجاعة «الخوارج».. ولكننا نشیر هنا إلى خصوص ما یدعى لهم من شجاعة فی حرب النهروان..


ولكننا نشیر أولاً: إلى أن هذا الكتاب قد تضمن فی فصوله المختلفة حدیثاً كثیراً عن أسباب انتشار دعوة «الخوارج»، وقلنا: إنه قد كان لشعاراتهم التی رفعوها، الدور الهام فی ذلك..


بالإضافة إلى ما كانوا یتظاهرون به من زهد وتقوى، وكذلك ما كان یلاقیه الناس من بنی أمیة من ظلم وجور. إلى غیر ذلك مما لا مجال لنا هنا لإعادته، أو للتذكیر به..


غیر أننا سنذكر: هنا بعض ما یرتبط بإسقاط دعوى تجعل من أحداث واقعة النهروان بالذات سبباً لذلك الانتشار أیضاً.. لندفع غائلة ما یمارسه الحاقدون من تزویر للحق وللتاریخ لأهداف بغیضة لا تخفى.


بالإضافة إلى أمور أخرى رأینا أنها بحاجة إلى بعض التوضیح أو












الصفحة 218


التصحیح، فنقول..


جبن «الخوارج» شجاعة!!


إن من الغریب حقاً: أننا نجد بعض من یتصدى للبحث التاریخی تبلغ به الغفلة أو التعصب حداً یجعله یصور ضعف «الخوارج» وجبنهم، وقلة تدبیرهم وهزیمتهم النكراء بطولة خارقة وصموداً، وإقداماً..


فهو یقول عنهم: «ویشهد المؤرخون بما أبدوه من شجاعة خارقة فی معركة لم تكن متكافئة، انتهت بقتل «الخوارج» ربضة واحدة»(1).


وتستوقفنا هنا أمور عدیدة:


فأولاً: لا ندری كیف عرف: أن المعركة لم تكن متكافئة؟! فهل یستطیع أن یبرز لنا جدولاً تاریخیاً موثقاً، أو حتى غیر موثق یؤكد عدم التكافؤ هذا، من خلال حجم ما حشده علی (علیه السلام) من قوى وعتاد عسكری، وما كانت تمتاز به مواقعه من الناحیة العسكریة على مواقع «الخوارج». أو أی شیء آخر یدخل فی دائرة التفوق العسكری لجیش علی (علیه السلام) على ما كان لدى «الخوارج» من حشود، وعتاد وسلاح؟!.


وقد تقدم: عن ابن حبان أنه نص على أن جیش علی (علیه السلام) كان قلیلاً بالنسبة لجیش «الخوارج»، أو هو یساویه على الأقل. بل قد یكون عدد «الخوارج» أكثر من عدد جیش علی (علیه السلام) فإن جیش


____________



(1) قضایا فی التاریخ الإسلامی ص 80 وأشار فی الهامش إلى الأخبار الطوال ص 210 والعبر ودیوان المبتدأ و الخبرج3 ص 142.













الصفحة 219


علی (علیه السلام) كان أربعة آلاف رجل. أما «الخوارج» فقد ذكرت بعض النصوص أنهم كانوا أربعة، أو خمسة، بل قیل: كانوا ثمانیة آلاف..


ومهما یكن من أمر فإن ابن أعثم یقول: بعد أن ذكر أن أمیر المؤمنین (علیه السلام) قد بذل محاولات جادة لجمع الناس لحرب «الخوارج»، وخطبهم عدة مرات، وبعد خطبته الثالثة:


أجابه الناس سراعاً، فاجتمع إلیه أربعة آلاف رجل أو یزیدون، قال:


فخرج بهم من الكوفة، وبین یدیه عدی بن حاتم الطائی، یرفع صوته، وهو یقول:


 





















نسیر إذا ما كاع قوم وبلدوا برایات صدق كالنسور الخوافق
إلى شر قوم من شراة تحزبوا وعادوا إله الناس رب المشارق
طغاةً عماةً مارقین عن الهدى وكل لعین قوله غیر صادق
وفینا علی ذو المعالی یقودنا إلیهم جهاراً بالسیوف البوارق



قال: وسار علی رضی الله عنه، حتى نزل على فرسخین من النهروان.


ثم دعا بغلامه، فقال: اركب إلى هؤلاء القوم، وقل لهم عنی.. الخ..(1).


فیتضح من هذا النص: أن التاریخ لیس فقط یرفض أن تكون كفة جیش علی (علیه السلام) هی الراجحة، بل هو یثیر احتمالات قویة وجادة


____________



(1) الفتوح لابن أعثم ج4 ص105 والبیت الثانی المتقدم ذكره المعتزلی فی شرح النهج ج2 ص 29.













الصفحة 220


فی أن تكون كفة «الخوارج» هی الراجحة، من حیث العدد على الأقل. فضلاً عن وجود دوافع قویة لدى «الخوارج» للفتك بعلی (علیه السلام) وبجیشه، مع فقد الحماس لدى جیش علی (علیه السلام) إلى درجة مخیفة.


ثانیاً: إننا مهما فرضنا من تفوق فی العدد والعدة فی جانب جیش علی (علیه السلام)، فان النتائج التی أسفرت عنها الحرب تبقى مذهلة وصاعقة.


فإنه إذا كان «الخوارج» مستمیتین فی هذه الحرب.. ولنفرض أن عددهم كان قلیلاً جداً ولو مئة رجل مقاتل فقط، وكان فی مقابلهم عدد هائل جداً ولو بنسبة مئة ألف مقاتل.. وكان الضعف فی جانب تلك الفئة القلیلة المستمیتة وكان الفرسان الشجعان فی جانب هذه الكثرة..


نعم.. إننا حتى لو فرضنا ذلك.. فإن ما نتوقعه من هؤلاء المستمیتین هو أن یقتلوا من ذلك الجیش الذی لیس لدیه رغبة كبیرة بالموت، بل جاء إلى الحرب بتثاقل و وهن وقد بُذل جهد كبیر فی استنفاره ودفعه إلى ساحة الجهاد ـ إننا نتوقع من هؤلاء المئة المستمیتین ـ أن یقتلوا منه بعددهم على الأقل، وذلك فی أسوأ الاحتمالات وأكثرها تشاؤماً..


فكیف إذا كان المستمیتون ألوفاً مؤلفة، ویحتمل أن یكون عددهم ضعف عدد الجیش الذی یواجههم، والمتثاقل عن قتالهم؟!. وكیف إذا كانوا قد قتلوا بأجمعهم، ولم ینج منهم عشرة، ولم یقتلوا من جیش علی (علیه السلام) حتى عشرة؟!!


فهل ثمة من جبن وذهول، واستسلام، وخور أكثر من هذا؟! وكیف استطاع هذا الكاتب ان یعتبر ذلك شجاعة لهم، فضلاً عن أن یعتبره












الصفحة 221


شجاعة خارقة؟!!.


إن هذا الأمر لا یمكن اعتباره حتى تهوراً ومجازفة.. فإن المجازف والمتهور یكون شرساً وجارحاً. وفاتكاً فی من یعادیه، ویهاجمه.


ثالثاً: والأغرب من ذلك هو أن قتلهم قد كان فی محل واحد وربضة واحدة. فأین هی مراوغتهم فی الحرب، وأین هی جولات الفرسان، ومخاتلة الأقران، ومقارعة الشجعان؟!


وكیف یمكن لهذه الألوف المؤلفة أن تقتل بهذه الطریقة، إلا إذا كانت قد استسلمت لقاتلیها كما یستسلم قطیع من الغنم لذابحه بكل بلادة ویسر وهوان؟!


وكیف یمكن لجیش حتى لو بلغ مئات الألوف أن یذبح ألوفاً من الناس ربضة واحدة، وأسلحتهم بأیدیهم، وساحة الحرب مفتوحة أمامهم.


رابعاً: إذا كان قد نجا منهم أقل من عشرة، فلماذا لم یلحق بهؤلاء العشرة عشرات ومئات وألوف أمثالهم لینجوا بأنفسهم من قتل لا فائدة فیه ولا عائدة؟!!


دعاوى حول أسباب تجذر مذهب «الخوارج»:


ویدعی بعض الذین لا یمتلكون قدرة على التحلیل الصحیح لأكثر من سبب:


«أن الموت الدرامی للخوارج فی النهروان أضحى فی نظر اللاحقین من «الخوارج» استشهاداً بطولیاً من أجل المبدأ والعقیدة. لذلك أصبح












الصفحة 222


المذهب الخارجی بعد النهروان یستند إلى أساس قوی من الفكر، والعقیدة والنضج السیاسی.


وانتشرت فی العالم الإسلامی تعالیمه بما تنطوی علیه من ثوریة ودیمقراطیة، ودعوة للمساواة، والعدالة الاجتماعیة.


ولا غرو فقد لقی استحساناً عند الموالی، وخرج من دائرة العروبة إلى نطاق الإسلام»(1).


ونقول:


إن هذا الكلام لا یمكن قبوله لأكثر من سبب:


فأولاً: إن هذا القائل نفسه یقول بعد ذلك مباشرة وفی نفس الصفحة: «إن حركات الخوارج بعد النهروان برغم كثرتها لم تسفر عن نتائج ایجابیة، ویعزى ذلك بالدرجة الاولى لافتقارها إلى التنظیم، واتسامها بالعفویة، والثوریة المفرطة»(2).


فالذین یستندون إلى أساس قوی من الفكر، والنضج السیاسی، كیف یغفلون أمر التنظیم؟ وكیف یتحركون بعفویة وثوریة مفرطة، تكون سبباً فی إزهاق الأرواح والنفوس، وفی إفساد حیاة الناس، دون أن یكون لها أیة فائدة أو عائدة فی إسقاط نظام الجبارین، وتخلیص الناس من المصائب والبلایا التی یعانون منها؟!.


ثانیاً: لم نفهم ماذا یقصد بالموت الدرامی للخوارج، فإن من الواضح: أنه ما كان إلا موت الجبناء، الذین على كثرتهم لم یستطیعوا


____________



(1) قضایا فی التاریخ الإسلامی ص 82 و83 تألیف الدكتور محمود إسماعیل.


(2) قضایا فی التاریخ الإسلامی ص 83.













الصفحة 223


أن یرفعوا أیدیهم بالسیوف أمام جیش أمیر المؤمنین (علیه السلام)، فإذا كانوا مستمیتین، ویعدون بالألوف، وإذا كانوا شجعاناً فما بالهم لم یقتلوا من جیش علی عشرة أشخاص، ولم ینج منهم هم عشرة؟!. علماً بأن جیش أمیر المؤمنین لم یكن أكثر منهم عدداً، بل ربما تشیر بعض النصوص ـ كما تقدم ـ إلى أنهم كانوا هم الأكثر عدداً، والأشد تصمیماً على القتال، من جیش علی الذی كان أكثره متردداً یدفعه علی (علیه السلام) دفعاً لقتالهم..


ثالثاً: حبذا لو ذكر لنا هذا الرجل مفردات ولو یسیرة جداً، بل ولو مفردة واحدة تدل على نضجهم السیاسی.


بل إن النضج السیاسی الذی یدعیه هذا الرجل لهم قد تجلى فی انقساماتهم السریعة، التی كانت تحصل لأتفه الأسباب وأبعدها عن التعقل والاتزان، والتی لا تملك مبرراً یمكن تصنیفه فی دائرة الوعی والنضج السیاسی أبداً.


وعلی (علیه السلام) كان أعرف بهم من كل احد، وهو الذی یقول فیهم: بأن لهم حلوم الأطفال. وأنهم أخفاء الهام، سفهاء الأحلام.


ونظن أن الهدف من هذا الادعاء هو التشكیك بهذا القول وما یشبهه مما سیأتی شطر منه إن شاء الله.


رابعاً: لا ندری كیف نفسر قوله، إن المذهب الخارجی یستند إلى أساس قوی من الفكر.


فهل یستطیع أن یدلنا على مفكر واحد أنتجته الحركة الخارجیة؟! وما هی معالم هذا الفكر، ومعاییره، وأصوله، ومناهجه؟!.












الصفحة 224


وسیأتی إن شاء الله تعالى فی بعض فصول هذا الكتاب كیف أن «الخوارج» كانوا أعراباً جفاةً، لا یستضیئون بنور العلم، ولا یمسكون بأی سبب من أسباب المعرفة والحكمة..


خامساً: فیما یرتبط بالأساس العقیدی القوی الذی ادعى أن مذهبهم یستند إلیه نقول:


لقد كان النبی (صلى الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام) أعرف بهم منه، حین قال (صلى الله علیه وآله) عنهم إنهم یمرقون من الدین مروق السهم من الرمیة، وان الدین لا یجاوز تراقیهم..


سادساً: إن غایة ما یمكن أن یتمسك به هؤلاء مما یمكن تصنیفه فی دائرة النضج السیاسی، هو تلك الشعارات التی كانوا یرفعونها، والتی كانت تستهوی الأحداث والجهلة، والتی كانوا یذكرون معها ما یشیر إلى ظلم بنی أمیة وجورهم.


ولكن ماذا تنفع تلك الشعارات، إذا كانوا یستحلون هم معها قتل الأطفال، وبقر بطون النساء المسلمات؟!! ولا یجرؤون فی المقابل على الإساءة إلى أحد من غیر المسلمین، فی تناقضات بدیعة، وشنیعة، لا یستسیغها عقل، ولا یرضى بها ضمیر، ولا یقرها وجدان..


سابعاً: ولا ندری ماذا یعنی بانتشار تعالیم «الخوارج» فی العالم الإسلامی، فهل انتشر ذلك فی أوساط أهل الفكر والعلم؟! أم انتشر ذلك بین الجهال؟! أهل الطیش وأصحاب الأطماع، وطلاب اللبانات. ولماذا لم تستقر هذه التعالیم فی الناس؟، بل سرعان ما انحسرت، ولم یبق لها أی أثر إلا بعد أن مستها ید التقلیم والتطعیم، التی لم تنجح أیضاً فی












الصفحة 225


إبقاء شیء من تعالیمهم إلا فی مناطق نائیة لیس فیها أثر یعتد به للنشاط الثقافی، والعلمی، والفكری..


هل یدافع علی (علیه السلام) عن حكمه؟!


وإذا أردنا أن نجیب على السؤال الذی یقول: لماذا كان علی (علیه السلام) شدیداً فی أمر «الخوارج» إلى هذا الحد، حیث قتلهم فی النهروان، حتى لم یفلت منهم إلا أقل من عشرة.. وهم الذین كانوا إلى الأمس القریب معه، ومن جملة جیشه، الذی حارب معه معاویة. ومع أنه (علیه السلام) هو ذلك الرجل المعروف بأنه الرؤوف الرحیم. وهو الذی لم یزل یسعى لدرء الفتنة، وإخماد النائرة، بأقل قدر ممكن من الخسائر فی الأرواح؟!


فهل كان یرید الانتقام لشخصه، من حیث إنه یرى فی «الخوارج» خطراً متوجهاً إلیه كشخص؟!.


إننا نجله كل الإجلال عن مثل ذلك. وهو الرجل الذی اثبت عملیاً، ومن یوم وفاة الرسول (صلى الله علیه وآله)، أنه أسمى من أن یفكر بغیر الإسلام، وهو القائل: لأسلمن ما سلمت أمور المسلمین، ولم یكن جور إلا علیَّ خاصة(1).


____________



(1) ولأجل ذلك استمر (علیه السلام) بالمعارضة لكل حاكم اغتصب الخلافة، ولم یلتزم بحكم الله فیها.. لأن أمور المسلمین لا یمكن أن تسلم فی ظل حكومة هذا النوع من الناس.. ولو كانت تسلم بذلك لم یصح فرض امامة وخلافة من الله ورسوله.. وقد نتج عن هذه المعارضة المستمرة إقصاؤه (علیه السلام) عن حقه طیلة خمس وعشرین سنة، ثم كان من نتیجة ذلك ما ابتلی به من حروب فی أیام خلافته. تلك الحروب التی كان یمكنه تجنبها لو أنه قبل بالعمل بنهج غیره، وداهن فی دین الله.. وقد طلب منه ذلك


=>













الصفحة 226


أو أنه كان یرى فی «الخوارج» خطراً یتهدد نظام حكمه، الذی یرید له أن یبقى ویستمر ثابتاً وقویاً، حتى لو كان ثمن ذلك هو قتل الألوف من الناس؟!.


أم أن له ثارات عند هؤلاء القوم، أراد أن یستوفیها بهذه الطریقة الحازمة والحاسمة؟!


إن سیرة علی، وما بینه الله ورسوله فی حقه لیكذب كل هذه الدعاوى.. ویبطلها ولسنا بحاجة إلىسوق الشواهد على ذلك.


وأما الحدیث عن ان له ثارات على «الخوارج»، فهو اسخف من أن یرد علیه، مادام أن حیاة علی (علیه السلام) كلها كانت جهاداً وتضحیات فی سبیل حفظ دین الناس وكراماتهم..


ولا یمكن أن نجد فی هذا التاریخ ما یشهد لوجود ثارات له علیهم أولهم علیه. ولیس علی بالذی یستحل أمراً من هذا القبیل..


ولابد أن ننتظر الإجابة الصحیحة على السؤال من علی (علیه السلام) نفسه، الذی اعلن بها بكل صراحة ووضوح؛ حیث قال: «أصبحنا نقاتل إخواننا فی الإسلام على ما دخل فیه من الزیغ»(1).


خوارج آخر الزمان:


وثمة كلام آخر یقوله بعض الناس عن قضیة «الخوارج» مع أمیر المؤمنین (علیه السلام)؛ وهو ما یلی:


____________



<=


أكثر من مرة ورفض. ورضى بمواجهة الأذى فی ذات الله حتى مات شهیداً مظلوماً على ید أشقاها.


(1) نهج البلاغة، الخطبة رقم 122.













الصفحة 227


«.. قد یقال: إن الخوارج هم الذین اضطروه إلى هذا العمل، وأنهم ما لبثوا بعد ذلك أن طلبوا إلیه الرجوع عنه، وأنه لم یكن له من الرأی والحكم شیء.


ولكن هذا یتناقض مع المنطق الصحیح، ذلك أن علیاً حینما وقع مع معاویة أراد أن لا یفرق جماعته، فترك الحق الإلهی بلا ثمن. ذلك الحق الذی كان ضروریاً له فی محاربته لخصومه، ومن أجل التمسك بالاتفاق أبعد حقه، وترك الأساس الذی یقوم علیه، والذی تتحقق به الخلافة.


أما هؤلاء الذین تمسكوا به، فقد تمسكوا بشخصه، ولم یسیروا معه فی أمره على أنه أمر الله، بل على أنه أمر علی، كما فعل أهل الشام فی أمر معاویة. ولم یكونوا على أساس قوی عندما ینتظرون التحكیم كأهل الشام.


وهكذا زهدوا فی مبدأهم الدینی السیاسی، الذی كان لابد منه لكل مسلم.


ومن هنا تفتحت عیون «الخوارج» على الإمام علی وأصحابه. وعرفوا أن الحق الذی ینادون به لیس إلا حجة، وأنهم إنما یریدون السلطان. ورأى «الخوارج» أنه إن كان ذلك قد حصل أول الأمر، فلا یمكن أن یصیر كذلك إلى آخر الأمر..»(1).


ونقول:


إن هذا البعض قد بذل قصارى جهده لیسجل إدانة لأمیر المؤمنین فی تعاطیه مع قضیة التحكیم، فأدان نفسه من حیث قد أفهم الناس: انه


____________



(1) الدكتور علی حسن عبد القادر: نظرة عامة فی تاریخ الفقه الإسلامی ص 170.













الصفحة 228


لم یطلع على وقائع التاریخ بدقة، أوأنه قد اطلع علیها، ولم یتمكن من استخلاص الحقیقة بوعی، ویقظة وتدبر. أو أنه لا هذا ولا ذاك، وإنما هو التعصب والحقد البغیض من ذی عاهة مریض، لا یطیق كبت مشاعره الحقیقیة، فتظهر لمحات من ذلك التعصب وبوادره فی موارد ومناسبات مختلفة.


ولسنا هنا بصدد الدفاع عن علی فإنه (علیه السلام) غنی عن دفاعنا فانه مع الحق، والحق معه، یدور حیثما دار ـ بشهادة الرسول الأكرم (صلى الله علیه وآله) وسلم الذی لا ینطق عن الهوى، إن هو إلا وحی یوحى. كما أننا لسنا بصدد الهجوم على سواه. بل نرید فقط لفت نظر القارئ إلى بدیهة تاریخیة تقول:


إن علیاً (علیه السلام) حین قبل بالتحكیم، فإنه لم یترك الحق بلا ثمن كما زعم هذا القائل.. بل هو قد ألزم عدوه بما ألزم به نفسه. ولو أن «الخوارج» لم یفسدوا ذلك بتعنتهم وإصرارهم على جعل أبی موسى الأشعری، عدو أمیر المؤمنین (علیه السلام)، فإنه ـ أعنی ما ألزم به معاویة ـ لابد أن یسقط معاویة، ویؤكد حق علی (علیه الصلاة والسلام)..


لأن القرآن سوف یحكم له (علیه السلام) على معاویة لعنه الله، ولأجل ذلك طلب من الحكمین أن یحییا ما أحیا القرآن، ویمیتا ما أمات القرآن.


وقال لهما أیضاً: أحكما بما فی القرآن ولو فی حز عنقی..


وقد كان حق علی (علیه السلام) ثابتاً قبل التحكیم بالنص الصریح علیه، فإنه كان هو الوصی لرسول الله (صلى الله علیه وآله).


وثابتا بالتحكیم لأن القرآن یحكم بالإمامة لعلی دون معاویة، فهو












الصفحة 229


الذی قال الله عنه: (إنما ولیكم الله ورسوله، والذین آمنوا، الذین یقیمون الصلاة ویؤتون الزكاة، وهم راكعون).


وهو الذی نزلت فیه آیات الغدیر..


ونزل فیه قوله: (أفمن یشری نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد)..


و(هو الذی عنده علم الكتاب)..


إلى غیر ذلك من الآیات الكثیرة التی تُقدّر بالمئات. وتدل على إمامته وخلافته، وعلى أنه أولى بالمؤمنین من أنفسهم.


ومعاویة وأحزابه من الظالمین المحرومین من الكرامة الربانیة، بمقتضى قوله تعالى: لا ینال عهدی الظالمین.


تماماً كما حرمت هذه الآیة الذین ظلموا الزهراء (علیها السلام) فور وفاة الرسول (صلى الله علیه وآله)، من أن یكون لهم فی هذا الأمر أی نصیب.


كما أن آیة: (هل یستوی الذین یعلمون والذین لا یعلمون) قد حرمتهم جمیعاً ومعاویة منهم من الخلافة الربانیة، لأن جهلهم بدین الله كالنار على المنار، وكالشمس فی رابعة النهار.


إلى غیر ذلك من آیات بینات تتحدث عن حرمان من یحمل صفات معاویة، ویفعل أفاعیله التی تتمثل بالخیانة، والكذب، والفسق،والقتل، والظلم، والفتنة والمكر السیء وما إلى ذلك، تحرمه من نیل مقام الخلافة لرسول الله (صلى الله علیه وآله) وسلم ومن مقام الولایة على












الصفحة 230


الناس..


كما أن حقه (علیه السلام) ثابت بعد التحكیم، لأن احتیال عمرو بن العاص على أبی موسى، لا یلغی حق ذی الحق، ولا یجعل الحق باطلاً.. بل هو یدین من یمكر، ویوجب العقوبة لمن یحتال..


فما معنى قول هذا القائل إذن: إن علیاً (علیه السلام) قد ترك الحق الإلهی بلا ثمن؟!


وهل یمكن ترك الحق الإلهی، مقابل أثمان؟ وما هو نوع تلك الأثمان التی تبرر ترك الحق الإلهی؟! وما هو ذلك الأساس الذی تقوم علیه، وتتحقق الخلافة به، وقد تركه علی بن أبی طالب (علیه السلام)؟!


إن ما ذكره هذا البعض هو صورة طبق الأصل لما یقوله «الخوارج» أنفسهم، ولا غرو، فإن هؤلاء فی انحرافهم عن علی (علیه السلام) لا یختلفون عن أسلافهم من أهل النهروان، غیر أن أولئك قد شهروا السیوف الهندیة فی وجه علی (علیه السلام) وشیعته الأبرار، وهؤلاء یشهرون أقلام الخیانة والتزویر، التی یغذوها حقد دفین، ومكر خفی. ولا یحیق المكر السیء إلا بأهله.


«الخوارج» وحریة الرأی:


وغنی عن البیان: أن «الخوارج» حین كانوا یقتلون من یخالفهم فی الرأی، بعد أن یكفروه، إنما كانوا یسعون لفرض آرائهم على الناس بالقوة. وكان هذا النهج هو السبب فی انقساماتهم السریعة، وتمزقهم المستمر، وتفرق كلمتهم باطراد.


واللافت أیضاً: أننا نجد منهم إصراراً لا مبرر له على آرائهم












الصفحة 231


ومعتقداتهم الباطلة حتى بعد ظهور زیفها، ولا یثنیهم ظهور بطلانها عن محاولة فرضها على الناس بالقوة، كما یظهر لمن قرأ تاریخهم.. وأصبح الناس معهم أمام خیارین لا ثالث لهما:


الأول: أن یؤمنوا بالباطل ویتخذوه دیناً..


الثانی: أن یواجهوا الموت والهلاك بأبشع صوره، وأشدها ألماً وهولاً..


وهذا الأمر هو الذی جعل الناس سرعان ما یدركون خطرهم، ونفر العقلاء منهم، وجعلهم یندفعون إلى العمل على صیانة حریة الاعتقاد، وإلى دفع شرهم عن الناس الأبریاء..


هذا بالإضافة.. إلى أن إفساح المجال أمام دعوة «الخوارج»، إنما یعنی القبول بسقوط النظام الاجتماعی العام، وجعل كل شیء فی خطر دائم ومستمر. وهذا مما لا مجال لقبوله، ولا طریق للسكوت عنه.


هذا حقد أم جهل؟!


قال بعضهم: «قد كانت الثورة ضد عثمان ثورة ضد الخلیفة فی سبیل الله، ومن أجل الحق والعدل ضد الباطل والجور، ولم یكن هذا المبدأ لیستعمل ضد عثمان بشخصه. ولكنه كان ضد كل حاكم یحید عن الطریق الصحیح.. وعلى هذا الأساس خرج «الخوارج» على الإمام، فهذه الثورة، التی جاءت به إلى الخلافة، ما كانت لتغمض عینها عن علی نفسه عندما یحید عن الصواب»(1).


____________



(1) نظرة عامة فی تاریخ الفقه الإسلامی ص 170 تألیف الدكتور على حسن عبد القادر













الصفحة 232


ونقول:


إن هذا الرجل قد أخذ كلامه من مستشرق حاقد لئیم، وهو یولیوس فلهوزن، حیث یقول: «.. فالثورة التی أتت بعلی إلى الخلافة، لم تتعاون معه حینما ضل الطریق»(1).


وهو كلام لا یمكن قبوله، ولا السكوت عنه، وذلك:


أولاً: لا ندری إن كان فلهوزن ومن تبعه ممن ینعق مع الناعقین، یجهلون حقیقة: أن «الخوارج» لم یكن لهم أی دور فی وصول علی (علیه السلام) إلى الخلافة، فإن هؤلاء الناس كانوا أعراباً جفاةً، یعیشون بذهنیتهم العشائریة فی مناطق بعیدة عن مركز القرار، وهم عراقیون، ولیسوا من أهل الحجاز، ولم یكن لهم ذكر ولا شأن، وإنما ظهر أمرهم، وطرأ ذكرهم بعصیانهم وتمردهم على أمیر المؤمنین فی صفین وبعدها..


ثانیاً: إن هذا الخبیث یجعل نفسه فی موقع العارف بالخطأ، والصواب، و الضلال، والهدى؛ فهو یوزع الأوسمة، ویعطی الشهادات بالهدى وبالضلال لمن أحب حتى تطاول ـ لعنه الله ـ على من هو مع الحق، والحق معه، وباب مدینة علم رسول الله، وسید الخلق من بعده وصفوة الله، وخیرة الله. وسفینة نجاة هذه الأمة.


ثالثاً: إن علیاً لم تأت به ثورة، وإنما هو وصی رسول رب العالمین، وقد نص الله ورسوله على إمامته وخلافته. وكانت عودة الناس إلیه هی التصرف الطبیعی، والانصیاع إلى الحكم الشرعی، والتكلیف الإلهی. فهم قد اغتصبوا مقامه وموقعه؛ فلا غرو إذا أرغمتهم الوقائع على الاعتراف بخطأهم، وعلى التراجع عن هذا الخطأ، وإعادة الأمور إلى نصابها..


____________



(1) الخوارج والشیعة ص 39.













الصفحة 233